عبد الله بن الزبير بن العوام .. أول مولود بالمدينة
نسبه
أبوه : الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ، والزبير هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمه : أسماء بنت عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم القرشي ، وهي بنت خير الخلق بعد الأنبياء أبي بكر الصديق وأخت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر
@@@@@
مولده
ولد ابن الزبير في قباء في السنة الثانية من الهجرة وهو أول مولود من المهاجرين في المدينة
كان عبـد الله بن الزبيـر جنينا في بطن أمه أسماء بنت أبي بكر ، وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم ، وما كادت تبلغ ( قباء ) عند مشارف المدينة حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من الصحابة ، وحُمِل المولود الأول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقبّله وحنّكه وسماه "عبد الله" ، فكان أول ما دخل جوف عبـد اللـه ريق الرسول الكريم
وحمله المسلمون في المدينة وطافوا به المدينة مهلليـن مكبرين فقد كَذَب اليهـود وكهنتهم عندما أشاعـوا أنهم سحروا المسلمين وسلّطوا عليهم العقـم ، فلن تشهد المدينة منهم وليدًا جديدًا ، فأبطل عبـد الله إفك اليهـود وكيدهـم
@@@@@
نشأته
على الرغم من أن عبد الله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن الطفل نما ونشأ في البيئة المسلمـة ، وتلقّى من عهد الرسـول صلى الله عليه وسـلم كل خامات رجولتـه ومباديء حياته ، فكان خارقا في حيويتـه وفطنتـه وصلابته ، وكان شبابه طهرا وعفـة وبطولة ، وأصبح رجلا يعرف طريقه ويقطعه بعزيمة جبارة ، وكانت كنيته ( أبا بكر ) مثل جدّه أبي بكر الصديق
وقد كُلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غِلْمَةٍ ترعرعوا ، منهم عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن أبي سلمة فقيل : ( يا رسول الله ، لو بايعتهم فتصيبهم بركتُك ويكون بهم ذكر ) ، فأتِيَ بهم إليهم فكأنهم تَكَعْكَعوا -أي هابوا- حين جيء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فاقتحم ابن الزبير أوّلهم ، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( إنّه ابن أبيه ) وبايعوه
ونشأ عبد الله بن الزبير نشأة طيبة، وتنسم منذ صغره عبق النبوة، وكانت خالته السيدة عائشة رضي الله عنها تعنى به وتتعهده ، حتى كنيت باسمه ، فكان يقال لها "أم عبد الله" ، لأنها لم تنجب ولدًا
ويعد من صغار الصحابة ، وله ذكر في كتب الحديث الشريف ، حيث روى في مسنده ثلاثة وثلاثين حديثًا
@@@@@
موقفه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
تنبأ له عمر بن الخطاب بمستقبل باهر لما رأى من رباطة جأشه وثبات قلبه ، واعتداده بنفسه ، فقد مر عمر بعبد الله وهو يلعب مع رفاقه من الصبيان ، فأسرعوا يلوذون بالفرار هيبة لعمر وإجلالاً له ، في حين ثبت عبد الله بن الزبير ولزم مكانه ، فقال له عمر: مالك لم تفر معهم؟
فقال عبد الله: لم أجرم فأخافك ، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك !ا
@@@@@
قصة شرب الدم
أتَى عبد الله بن الزبير النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلمّا فرغ قال : ( يا عبد الله ، اذهب بهذا الدم فأهْرقْهُ حيثُ لا يراكَ أحد ) ، فلمّا برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَدَ إلى الدم فشربه ، فلمّا رجع قال : ( يا عبد الله ، ما صنعت ؟) ، قال : ( جعلته في أخفى مكان علمت أنه بخافٍ عن الناس !) ، قال : ( لعلّك شربته ؟!) ، قال : ( نعم ) ، قال : ( ولِمَ شربت الدّم ؟! ويلٌ للناس منك ، وويلٌ لك من الناس !) ، فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم
وفي رواية أخرى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ويلٌ لك من الناس ، وويلٌ للناس منك ، لا تمسّك النارُ إلا قَسَم اليمين ) ، وهو قوله تعالى : ( وإن مِنكُمْ إلاّ وَارِدُهَا كانَ على ربِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) / المريم:71
@@@@@
إيمانه
قال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي مُلَيْكة : ( صِفْ لنا عبد الله بن الزبير ) ، فقال : ( والله ، ما رأيت نفسًا رُكّبت بين جَنْبين مثل نفسه ، ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها ، وكان يركع أو يسجد فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله ، لا تحسبه من طول ركوعه و سجوده إلا جدارًا أو ثوبًا مطروحًا ، ولقد مرَّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي ، فوالله ما أحسَّ بها ولا اهتزّ لها ، ولا قطع من أجلها قراءته ولا تعجل ركوعه )ا
وسئل عنه ابن عباس فقال على الرغم ما بينهم من خلاف : ( كان قارئًا لكتاب الله ، مُتَّبِعًا سنة رسوله ، قانتًا لله ، صائمًا في الهواجر من مخافة الله ، ابن حواريّ رسول الله ، وأمه أسماء بنت الصديق ، وخالته عائشة زوجة رسول الله ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله )ا
@@@@@
فضله
كان عبد الله بن الزبير من العلماء المجتهدين ، وما كان أحد أعلم بالمناسك منه ، وقال عنه عثمان بن طلحة : ( كان عبد الله بن الزبير لا يُنازَعُ في ثلاثة : شجاعة ، ولا عبادة ، ولا بلاغة )ا
وقد تكلّم عبد الله بن الزبير يومًا والزبير يسمع فقال له : ( أي بُنيّ ! ما زلتُ تكلّم بكلام أبي بكر حتى ظننتُ أنّ أبا بكر قائمٌ ، فانظُر إلى منْ تزوّج فإنّ المرأة من أخيها من أبيها )ا
وأول من كسا الكعبة بالديباج هو عبد الله بن الزبير ، وإن كان ليُطيِّبُها حتى يجد ريحها مَنْ دخل الحرم
قال عمر بن قيس : ( كان لابن الزبير مئة غلام ، يتكلّم كلّ غلام منهم بلغة أخرى ، وكان الزبير يكلّم كلَّ واحد منهم بلغته ، وكنت إذا نظرتُ إليه في أمر دنياه قلت : هذا رجلٌ لم يُرِد الله طرفةَ عين ، وإذا نظرتُ إليه في أمر آخرته قلت : هذا رجلٌ لم يُرِد الدنيا طرفة عين )ا
@@@@@
جهاده
كان عبد الله بن الزبير وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال الفتوح الإسلامية ، في فتح إفريقية والأندلس والقسطنطينية
ففي فتح إفريقية وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا ، وألقى عبد الله نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوته التي تكمن في ملك البربر وقائد الجيش ، الذي يصيح بجنده ويحرضـهم على الموت بطريقة عجيبـة ، فأدرك عبـد الله أنه لابد من سقوط هذا القائد العنيـد ، ولكن كيف ؟
نادى عبد الله بعض إخوانه وقال لهم : ( احموا ظهري واهجموا معي )ا
وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم نحو القائد حتى إذا بلغه هوى عليه في كرَّة واحـدة فهوى ، ثم استدار بمن معه إلى الجنود الذين كانوا يحيطـون بملكهم فصرعوهـم ثم صاحوا : ( اللـه أكبـر ) وعندما رأى المسلمون رايتهم ترتفع حيث كان قائد البربر يقف ، أدركوا أنه النصر فشدّوا شدَّة رجل واحد وانتهى الأمر بنصر المسلمين
وكانت مكافأة الزبير من قائد جيش المسلمين ( عبد الله بن أبي سَرح ) بأن جعله يحمل بشرى النصر الى خليفة المسلمين ( عثمان بن عفان ) في المدينة بنفسه
@@@@@
موقفه مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
: عن عبد الله بن الزبير مع معاوية بن أبي سفيان في الحلم وحُسن العِشرة وطيب الأُخوة
إنه كان لعبد الله بن الزبير مزرعة بمكة بجوار مزرعة معاوية وكان عمال معاوية يدخلونها فكتب ابن الزبير لمعاوية خطابًا كتب فيه : ( من عبد الله بن الزبير ابن ذات النطاقين وابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معاوية بن هند أكلة الأكباد : إن عمالك يدخلون مزرعتي فإن لم تنههم ليكونن بيني وبينك شأن ، والسلام )ا
فلما وصل الخطاب لمعاوية كتب له خطابًا ذكر فيه : ( من معاوية بن هند أكلة الأكباد إلى ابن الزبير بن ذات النطاقين وابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم : لو كانت الدنيا لي فسألتها لأعطيتكها ولكن إذا وصلك خطابي هذا فضُم مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك فهي لك ، والسلام )ا
فلما قرأها بلها بالدموع وركب من مكة إلى معاوية في الشام وقبّل رأسه وقال له: لا أعدمك الله عقلاً أنزلك هذه المنزلة
@@@@@
موقفه من يزيد بن معاوية
كان عبد الله بن الزبير يرى أن ( يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ) آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين إن كان يصلح على الإطلاق ! لقد كان ( يزيد ) فاسدًا في كل شيء ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع له ، فكيف يبايعه ؟
لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حيّ ، وها هو يقولها ليزيد بعد أن أصبح خليفة ، وأرسل إلى ابن الزبير يتوعّده بشر مصير ، هنالك قال ابن الزبير : ( لا أبايع السَّكير أبدًا ) ثم أنشد : ( ولا ألين لغير الحق أسأله ** حتى يلين لِضِرْس الماضِغ الحَجر )ا
فلمّا تولى يزيد بن معاوية الخلافة سنة ( 60 هـ = 679 م ) حرص على أخذ البيعة من الأمصار الإسلامية ، فلبت نداءه وبايعته دون تردد ، في حين استعصت عليه بلاد الحجاز حيث يعيش أبناء الصحابة الذين امتنعوا عن مبايعة يزيد ، وكان في مقدمة الممتنعين الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ، غير أن يزيد بن معاوية ألح في ضرورة أخذ البيعة منهما ، ولو جاء الأمر قسرًا وقهرًا لا اختيارًا وطواعية
ولم يجد ابن الزبير مفرًا من مغادرة المدينة والتوجه إلى مكة ، والاحتماء ببيتها العتيق ، وسمى نفسه "العائذ بالبيت" وفشلت محاولات يزيد في إجباره على البيعة
وبعد استشهاد الحسين بن علي في معركة كربلاء في العاشر من المحرم سنة ( 61 هـ = 10 من أكتوبر 680 م ) التف الناس حول ابن الزبير وزاد أنصاره سخطًا على يزيد بن معاوية
وحاول يزيد أن يضع حدًا لامتناع ابن الزبير عن مبايعته ، فأرسل إليه جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة ، غير أنه توفي وهو في الطريق إلى مكة ، فتولى قيادة الجيش "الحصين بن نمير" ، وبلغ مكة في ( 26 من المحرم 64هـ ) ، وحاصر ابن الزبير أربعة وستين يومًا ، دارت خلالها مناوشات لم تحسم الأمر ، وفي أثناء هذا الصراع جاءت الأنباء بوفاة يزيد بن معاوية في ( 14 من ربيع الأول سنة 64 هـ = 13 إبريل 685 م ) ، فسادت الفوضى والاضطراب في صفوف جيش يزيد
@@@@@
الإمارة
أعلن ابن الزبير نفسه خليفة للمسلمين عقب وفاة يزيد بن معاوية ، وبُويَع لعبد الله بن الزبير بالخلافة سنة أربع وستين عقب موت يزيد بن معاوية
وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين مُتَّخِذا من مكة المكرمة عاصمة خلافته ، باسطا حكمه على الحجاز واليمن والبصرة والكوفة وخُرسان والشام كلها عدا دمشق بعد أن بايعه أهل هذه الأمصار جميعا ، ولكن الأمويين لا يقرُّ قرارهم ولا يهدأ بالهم ، فيشنون عليه حروبا موصولة
@@@@@
صراعاته مع أمراء الدولة الأموية
بدأ ابن الزبير خلافته في مكة وهي على قداستها وعظمتها لم تكن تصلح عاصمة لدولة مترامية الأطراف ، وترك دمشق التي كانت تتوسط العالم الإسلامي وتمتلئ بالرجال والمال ، ثم أقدم على خطوة كان فيها حتفه ، حين أخرج معظم رجال بني أمية من المدينة ، وكان فيهم: "مروان بن الحكم" وابنه عبد الملك ، وهو ما أعطاهم الفرصة من التوجه إلى الشام ، وجمع شمل الأنصار والأعوان الذين حضروا من كل مكان ، وعقدوا مؤتمرًا في الجابية ، وبايعوا مروان بن الحكم بالخلافة ، ولو أن ابن الزبير أبقى بني أمية في المدينة تحت نظره ومراقبته -وكان في مقدوره أن يفعل ذلك- لما تحققت هذه الخطوة الأولى التي كان لها شأن في انطلاق بني أمية لإعادة الخلافة لهم والقضاء على ابن الزبير
استهل مروان بن الحكم أمره باستعادة الشام التي كان معظم أقاليمها قد بايع ابن الزبير بعد أن نجح في هزيمة أنصار ابن الزبير، وقتل قائدهم الضحاك بن قيس في معركة مرج راهط في نهاية سنة ( 64 هـ = 683 م ) ، ثم أعقب ذلك بالاستيلاء على مصر سنة ( 65 هـ = 684 م ) وولى عليها ابنه عبد العزيز ، وزوده بالنصائح الهامة ، وقفل راجعًا إلى الشام ، ليواصل جهوده في الزحف نحو العراق
ـ وقبل أن نستطرد في تفاصيل الصراع بين ابن الزبير وخصومه يجدر بنا أن نذهب إلى ما ذهب إليه كبار الفقهاء من أن بيعة ابن الزبير كانت عن رضا وإجماع من المسلمين، وترتب على ذلك أن أرسل ابن الزبير ولاته على الأمصار الإسلامية ، وأبدى المسلمون رضاهم عن هؤلاء الولاة ، في حين لم يبايع مروان سوى نفر قليل من أهل الشام ، فضلاً عن أن بيعة ابن الزبير كانت أسبق زمنًا من بيعة مروان التي جاءت متأخرة عنها ، غير أن الرجلين تمسكا بالخلافة ، وإن كانت الشرعية في جانب ابن الزبير، لكنها لم تكن لتحسم الأمر وحدها، بل كان للسياسية والدهاء واصطناع الرجال دور لا ينكر في حسم الصراع وهذا ما كان
توفي مروان بن الحكم وخلفه ابنه عبد الملك بن مروان سنة ( 65 هـ = 684 م ) ، وكانت الشام ومصر تحت سلطانه ، على حين بقيت الحجاز والعراق تحت سيطرة ابن الزبير ، عزم عبد الملك بن مروان على استعادة العراق التابعة لدولة ابن الزبير ، فخرج إليها بنفسه سنة ( 71 هـ = 690 م ) بعد أن اطمأن إلى تثبيت أركان دولته وتوطيد حكمه ، وأعد جيشًا عظيمًا لهذا اللقاء الفاصل
وكان مصعب بن الزبير واليا عليها ويتخذ الكوفة عاصمة لها ، فدخلوا الكوفة وقتلوه ، وولى عبد الملك بن مروان "بشر" أخيه واليا عليها
كان ضياع العراق من يد عبد الله بن الزبير أكبر كارثة حلت به ، في الوقت الذي قوي فيه خصمه بانضمام العراق تحت ملكه وسلطانه الذي أصبح يضم معظم أقطار العالم الإسلامي ، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز
@@@@@
الحجّاج بن يوسف الثقفي
لم يضيع عبد الملك بن مروان الوقت في الانتظار بعد انتصاره على مصعب بن الزبير
فأعد حملة عسكرية في عشرين ألف جندي ، ووجهها الحملة العسكرية إلى الحجاز للقضاء على ابن الزبير المعتصم بمكة الذي لم يكن بمقدوره الصمود بعد أن فقد معظم دولته ، ولم يبق له سوى الحجاز ، ولم تكن بطبيعة الحال غنية بالمال والرجال
وندب لمهاجمة عبد الله في مكة واحدًا من أشقى بني آدم وأكثرهم قسوة وإجرامًا ، ذلكم هو ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) الذي قال عنه الإمام العادل عمر بن عبد العزيز : ( لو جاءت كل أمَّة بخطاياها ، وجئنا نحن بالحجّاج وحده ، لرجحناهم جميعًا ! )ا
ذهب الحجّاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير ، وحاصرها وأهلها قُرابة ستة أشهر مانعًا عن الناس الماء والطعام ، كي يحملهم على ترك عبد الله بن الزبير وحيدًا بلا جيش ولا أعوان ، وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون ، ووجد عبد الله نفسه وحيدًا ، وعلى الرغم من أن فُرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مُهَيّأة له ، فقد قرر أن يحمل مسئوليته إلى النهاية وراح يقاتل جيش الحجّاج في شجاعة أسطورية وهو يومئذ في السبعين من عمره
لقد كان وضوح عبد الله رضي الله عنه مع نفسه وصدقه مع عقيدته ومبادئه ملازمًا له في أشد ساعات المحنة مع الحجّاج ، فهاهو يسمع فرقة من الأحباش ، وكانوا من أمهر الرماة والمقاتلين في جيش ابن الزبير ، يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان بحديث لا ورع فيه ولا إنصاف ، فعنَّفَهم وقال لهم : ( والله ما أحبُّ أن أستظهر على عَدوي بمن يُبغض عثمان ) ، ثم صرفهم ابن الزبير عنه ، ولم يبالي أن يخسر مائتين من أكفأ الرماة عنده
@@@@@
الساعات الأخيرة
وفي الساعات الأخيرة من حياة عبد الله رضي الله عنه جرى هذا الحوار بينه وبين أمه العظيمة ( أسماء بنت أبي بكر - ذات النطاقين ) فقد ذهب إليها ووضع أمامها الصورة الدقيقة لموقفه ومصيره الذي ينتظره فقال لها : ( يا أمّه ، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ، فلم يبقَ معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة ، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك ؟ )ا
فقالت له أمه : ( يا بني أنت أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق ، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله ، ولا تمكّن من رقبتك غِلمَان بني أمية ، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبِئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتِلَ معك )ا
قال عبد الله : ( هذا والله رأيي ، والذي قمت ُ به داعيًا يومي هذا ، ما ركنتُ إلى الدنيا ، ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله ، ولكنّي أحببتُ أن أعلمُ رأيك ، فتزيدينني قوّة وبصيرة مع بصيرتي ، فانظري يا أمّه فإنّي مقتول من يومي هذا ، لا يشتدّ جزعُكِ عليّ سلّمي لأمر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمل بفاحشة ، ولم يَجُرْ في حكم ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يبلغني عن عمالي فريضته بل أنكرته ، ولم يكن شيء آثر عندي من رضى ربّي ؛ اللهم إني لا أقول هذا تزكية منّي لنفسي ، أنت أعلم بي ، ولكنّي أقوله تعزية لأمّي لتسلو به عني )ا
ثم قال : ( يا أمتِ .. إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي )ا
فقالت: ( إنّ الشاة لا يضرُّها سلخها بعد ذبحها )ا
ثم قالت : ( إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن سبَقْتَني إلى الله أو سَبقْتُك ، اللهم ارحم طول قيامه في الليل ، وظمأه في الهواجر ، وبِرّه بأبيه وبي ، اللهم إني أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثِبْني في عبد الله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين )ا
وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته
@@@@@
الشهيد
وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافيء ، حيث اعتصم ابن الزبير بالمسجد الحرام ولكن الحجّاج ضربه بالمنجنيق وأصاب الكعبة وهدم بعض أطرافها ثم اقتحم المسجد وتلقّى الشهيد ضربة الموت ، وكان ذلك في شهر جمادى الأولى سنة 73 هـ ، وكان عمر بن الزبير يوم استشهاده 72 سنة ، وقد دامت خلافته نحو تسع سنين
ووصل الخبر إلى الحجّاج فسجد شكرًا !!! وأمر باجتزاز رأسه ، وأرسله إلى عبد الملك
! وأَبَى الحجّاج إلا أن يُصلب الجثمان الهامد تشفيًا وخِسة
ـ وقيل أن أم البطل وعمرها سبع وتسعون سنة لترى ولدها المصلوب ، وبكل قوة وقفت تجاهه ، واقترب الحجّاج منها قائلا : ( يا أماه إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا ، فهل لك من حاجة ؟ ) ، فصاحت به قائلة : ( لست لك بأم ، إنما أنا أمُّ هذا المصلوب على الثّنِيّة ، وما بي إليكم حاجة ، ولكني أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله قال ( يخرج من ثقيف كذّاب ومُبير ) فأما الكذّاب فقد رأيناه ، وأما المُبير فلا أراه إلا أنت )ا
ـ وتقدم عبد الله بن عمر رضي الله عنه من أسماء مُعزِّيا وداعيًا إياها إلى الصبر، فأجابته قائلة : ( وماذا يمنعني من الصبر ، وقد أُهْدِيَ رأس يحيى بن زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل؟ )ا
يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق ، أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبد الله بن الزبير عن جسده قبل أن يصلبوه ؟؟
أجل إن يكن رأس ابن الزبير قد قُدم هدية للحجّاج ولعبد الملك ، فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية لـ( سالومي ) بَغيّ حقيرة من بني إسرائيل ، ما أروع التشبيه وما أصدق الكلمات
@@@@@
الدفن
ـ كان عبد الله بن الزبير يستعمل الصبر والمسك قبل قتله لئلا ينتن. فلمّا صلبه الحجاج فاحت من جثته رائحة المسك. وقيل إن الحجاج صلب معه كلبًا أو سنُّورًا ميتًا حتى تغطّي الرائحة النتنة للسنور على رائحة المسك
ـ وقيل: إن الجثة ظلّت مصلوبة حتى مرّ بها عبد الله بن عمر ، فقال: "رحمة الله عليك يا أبا خبيب ، أما والله لقد كنت صوّامًا قوّاماً". ثم قال: "أما آن لهذا الراكب أن ينزل" ؟ فبعث الحجّاج ، فأنزلت الجثة ودُفن
ـ وقال جويرية بن أسماء عن جدته: أن أسماء بنت أبي بكر غسلت ابن الزبير بعد ما تقطعت أوصاله ، وجاء الإذن من عبد الملك بن مروان عندما أبى الحجاج أن يأذن لها ، فحنطته وكفنته ، وصلت عليه ، وجعلت فيه شيئا حين رأته يتفسخ إذا مسته
ـ وقال مصعب بن عبد الله: حملته أمه فدفنته بالمدينة في دار صفية أم المؤمنين ، ثم زيدت دار صفية في المسجد ، فهو مدفون مع النبي ، يعني بقربه
@@@@@
ـ**ـ عبد الله بن الزبير بين فكّي التاريخ
لما قُتل ابن الزبير خطب الحجّاج في الناس فقال : ( كان ابن الزبير من خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازعها أهلها وأَلْحَدَ في الحرم فأذاقه الله من عذابه الأليم. وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير وكان في الجنة وهي أشرف من مكة ، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التي نهي عنها أخرجه الله من الجنة )ا
ولسنا نقدر أن نهضم هذه المحاججة التي تدلّ على أخلاق الحجاج !!! فمن المُلحِد حقًا !!!؟
أهو الحجاج الذي قتل أكثر من ( 300,000 ) شخص خلال مدة حكمه التي دامت 20 سنة من الظلام ، والذي ضرب الكعبة بالمنجنيق .. أم عبد الله بن الزبير أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، الذي خرج على طغاة بني أميّة الذين ابتعدوا عن الإسلام الصحيح؟! أم أنه ولمجرّد قيام عبد الله بن الزبير بمحاولة تقويم المسيرة لم يعد من خيار هذه الأمة؟